الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
أماويّ إنّي ربّ واحد أمّه *** أجرت فلا قتلٌ عليه ولا أسر على أن واحد أمّه نكرة لا يتعرّف بالإضافة وإن أضيف إلى المعرفة، لتوغله في الإبهام، إذ لا ينحصر بالنسبة إلى مضاف إليه معيّن، إذ بعد الإضافة لا يتعيّن المضاف أيضاً، فيه نظير غيرك ومثلك، ولذلك وقع مجروراً لربّ. والشارح المحقّق نسب جعله منكراً إلى بعض العرب، واستدلّ له بدخول ربّ عليه، فإنّها لا تدخل إلاّ على نكرة. وغيره نسب التنكير إلى بعض النّحاة؛ ويؤيّده قول ابن الأنباريّ في الزاهر: إنّ الفرّاء وهشاماً قالا: نسيج وحده وعيير وحده، وواحد أمّه، نكرات. والدليل على هذا أنّ العرب تقول: ربّ نسيج وحده قد رأيت، وربّ واحد أمّه قد أجرت. واحتجّ هشتامٌ بقول حاتم: أماويّ إنّي ربّ واحد أمّه *** أجرت فلا قتلٌ عليه ولا أسر قال شارح اللباب وغيره: والأكثر أن يكون معرفة على قياس الإضافة إلى المعارف، وأمّا وروده نكرةً فنادر، إنّما جاء في الشعر. وقول الشارح المحقّق: وليس العلّة في تنكيرهما ما قال بعضهم إنّ واحد مضاف إلى أمّ إلى آخره، هو كلام عبد القاهر الجرجانيّ، قال: والضمير المتصل ببطن وأمّ، لا يجوز أن يعود إلى نفس واحد وعبد، لأنّ المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف؛ فإذا كان تعريف أمّ بإضافتها إلى ضمير الواحد، كان التماس تعريف الواحد منها محالاً، وكان بمنزلة تعريف الشيء بنفسه، فوجب أن يعود الضمير إلى شيء غير عبد وواحد، يجوز أن تقول: زيد عبد بطنه، فيكون تعريف عبد بغير ضميره. قال: فإّذا قلت جاءني واحد أمّه، وعبد بطنه، جاز أن يكون معرفة بأن يتقدّم الذكر، كأنك قلت جاءني الكامل النبيل الذي عرفته. وإذا جعل نكرة فعلى أنه يوصف به نكرة محذوفة كما في البيت، كأنّه قال إنسانٌ واحد أمّه؛ بمنزلة قولك: ربّ إنسان عزيز معظّم، لأنّ ربّ لا تدخل على المعارف. انتهى كلامه. وقوله: أماويّ الخ الهمزة للنداء، وماويّ منادى مرخّم ماويّة، وهي زوجة حاتم. والماويّة في اللغة: المرآة التي يرى فيها الوجه؛ كأنّها منسوبة إلى الماء، فإنّ النسبة إلى الماء مائيّ وماويّ. وربّ هنا لإنشاء التكثير والعامل في محلّ مجرورها أجرت بالجيم والراء المهملة، بمعنى أمّنته مما يخاف؛ يقال: استجاره أي: طلب منه أن يحفظه فأجاره. وروى بدله: أخذت قال الزمخشريّ في أمثاله عند قوله أجود من حاتم: كان إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا غنم أنهب، وإذا سئل وهب، وإذا ضرب بالقدح سبق، وإذا أسر أطلق، وإذا أثرى أنفق. وكان أقسم بالله لا يقتل واحد أمّه. انتهى. وروى صاحب اللباب المصراع الثاني هكذا: قتلت فلا غرم عليّ ولا جدل من جدل عليه: إذا صال عليه بالظّلم. وليس كذلك؛ فإنّ البيت من قصيدة رائيّة وهي: أماويّ قد طال التّجنّب والهجر *** وقد عذرتني في طلابكم عذر أماويّ إنّ المال غادٍ ورائحٌ *** ويبقى من المال الأحاديث والذّكر أماويّ إنّي لا اقول لسائلي *** إذا جاء يوماً حلّ في مالنا النّزر أماويّ إمّا مانعٌ فمبيّنٌ *** وإمّا عطاءٌ لا ينهنهه الزّجر أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصّدر أماويّ إن يصبح صداي بقفرةٍ *** من الأرض لا ماءٌ لديّ ولا خمر تري أنّ ما انفقت لم يك ضائري *** وأنّ يدي ممّا بخلت به صفر أماويّ إنّي ربّ واحد أمّه *** أخذت فلا قتلٌ عليه ولا أسر وقد علم الأقوام لو أنّ حاتم *** أراد ثراء المال كان له وفر أماويّ إنّ المال مالٌ بذلته *** فأوّله شكرٌ وآخره ذكر وإنّي لا آلو بمالي صنيعةً *** فأوّله زادٌ وآخره دخر يفكّ به العاني ويؤكل طيّب *** وما إن يعريّه القداح ولا القمر ولا أظلم ابن العمّ إن كان إخوتي *** شهوداً وقد اودى بإخوته الدّهر غنينا زماناً بالتّصعلك والغنى *** وكلاّ سقاناه بكأسيهما الدّهر فما زادنا بأواً على ذي قرابةٍ *** غنانا ولا ازرى بأحسابنا الفقر وما ضرّ جاراً يا ابنة القوم فاعلمي *** يجاورني أن لا يكون له ستر بعينيّ عن جارات قومي غفلةٌ *** وفي السّمع منّي عن أحاديثها وقر قوله: وقد عذرتني الخ ، عذرته فيما صنع من باب ضرب: رفعت عنه اللوم، فهو معذور، أي: غير ملوم. والاسم العذر بالضم. وقوله: حلّ في مالنا النزر ، أي: القلّة. ونهنهه: كفّه ومنعه. وقوله: إذا حشرجت يوماً الخ أورد صاحب الكشّاف هذا البيت عند تفسير قوله تعالى: {كلاً إذا بلغت التّراقي على إضمار النفس قبل الذكر، لذلالة الكلام عليه، كما أضمرها الشاعر في حشرجت. والحشرجة ، أوله مهملة وآخره جيم: الغرغرة عند الموت وتردّد النفس. والصّدى: ما يبقى من الميت في قبره، قاله المبرد في الكامل عند قول النّمر بن تولب الصحابيّ: الطويل أعاذل إن يصبح صداي بقفرةٍ *** بعيداً نآني صاحبي وقريبي تري أنّ ما ابقيت لم أك ربّه *** وأنّ الذي أنفقت كان نصيبي وقوله: لا آلو ، أي: لا أقصّر. والعاني: الأسير. وقوله: وما إن يعرّيه ، أي: يفنيه. والقداح: قداح الميسر. والقمر ، بالفتح: المقامرة. وقوله: غنينا ، غني كفرح: عاش، وغنى بالمكان: أقام به. والبأو بالموحدة وسكون الهمزة الكبر والفخر، يقال: بأوت على القوم أبأى باواً. وسبب هذه القصيدة هو ما رواه الزجاجيّ في أماليه الوسطى قال:: أخبنا ابن دريد قال: أخبرني عبد الرحمن عن عمه، وابو حاتم عن أبي عبيد قالا: كانت امرأةٌ من العرب من بنات ملوك اليمن ذات جمال وكمال، وحسب ومال، فآلت أن لا تزوّج نفسها إلاّ من كريم، ولئن خطبها لئيم لتجدعنّ أنفه، فتحاماها الناس حتّى انتدب لها زيد الخيل، وحاتم بن عبد الله، وأوس بن حارثة بن لأم الطائيّون، فارتحلوا إليها فلمّا دخلوا عليها قالت: مرحباً بكم، ما كنتم زوّاراً فما الذي جاء بكم؟ قالوا: جئنا زوّاراً خطّاباً، قالت: أكفاء كرام. فأنزلتهم وفرّقت بينهم وأسبغت لهم القرى وزادت فيه؛ فلما كان في اليوم الثاني بعثت بعض حواريها متنكرة في زي سائلة تتعرّض لهم، فدفع إليها زيد وأوسٌ شطر ما حمل إلى كلّ واحدٍ منهما، فلمّا صارت إلى رجل حاتمٍ دفع إليها جميع ما كان من نفقته، وحمل معها جميع ما حمل إليه، فلمّا كان في اليوم الثالث دخلوا عليها فقالت: ليصف كلّ واحد منكم نفسه في شعره؛ فابتدر زيد وانشأ يقول: البسيط هلاّ سألت بني ذبيان ما حسبي *** عند الطّعان إذا ما احمرّت الحدق وجاءت الخيل محمرّاً بوادره *** بالماء يسفح من لبّاتها العلق والخيل تعلم أنّي كنت فالاسه *** يوم الأكسّ به من نجدة روق والجار يعلم أنّي لست خاذله *** إن ناب دهرٌ لعظم الجار معترق هذا الثّناء فإن ترضي فراضيةٌ *** وتسخطي فإلى من تعطف العنق وقال أوس بن حارثة: إنّك لتعلمين أنّا أكرم أحساباً وأشهر أفعالاً، من أن نصف أنفسنا لك، أنا الذي يقول فيه الشاعر: الوافر إلى أوس بن حارثة بن لأمٍ *** ليقضي حاجتي ولقد قضاها فما وطئ الحصى مثل ابن سعدى *** ولا لبس النّعال ولا احتذاها وأنا الذي عقّت عقيقته، وأعتقت عن كلّ شعرةٍ فيها عنه نسمة. ثم أنشأ يقول: الطويل فإن تنكحي ماويّة الخير حاتم *** فما مثله فينا ولا في الأعاجم فتىً لا يزال الدّهر أكبر همّه *** فكاك أسيرٍ ومعونة غارو وإن تنكحي زيداً ففارس قومه *** إذا الحرب يوماً أقعدت كلّ قائم وصاحب نبهان الذي يتّقى به *** شذا الأمر عند المعظم المتفاقم وإن تنكحيني تنكحي غير فاجر *** ولا جارفٍ جرف العشيرة هادم ولا متّقٍ يوماً إذا الحرب شمّرت *** بأنفسها نفسي كفعل الأشائم وإن طارق الأاضياف لاذ برحله *** وجدت ابن سعدى للقرى غير عاتم فأي فتىً أهدى لك الله فاقبلي *** فإنّا كرامٌ من رؤوس أكارم وأنشأ حاتم يقول: أماويّ قد طال التّجنّب والهجر *** وقد عذرتني في طلابكم عذر إلى أن انتهى إلى آخر القصيدة - وهي مشهورة - فقالت: أما انت يا زيد فقد وترت العرب، وبقاؤك مع الحرّة قليل. وأمّا أنت يا أوس فرجل ذو ضرائر، والدخول عليهنّ شديد. وأمّا أنت يا حاتم فمرضيّ الخلائق، محمود الشيم، كريم النفس، وقد زوّجتك نفسي . ما رواه الزجلجيّ. وقد روى صاحب الأغاني هذا الخبر على غير هذا، قال: إن معاوية تذاكروا عنده ملوك العرب، حتّى دكروا الزّبّاء وماويّة، فقال معاوية: إنّي لأحبّ أن أسمع حديث ماوية وحاتم، فقال رجل من القوم: أفلا أحدّثك به؟ فقال معاوية: بلى. فقال: إن ماوية كانت ملكة، وكانت تتزوج من ارادت، وإنّها بعثت يوماً غلماناً لها وأمرتهم أن يأتوها بأوسم من يجدونه من الحيرة، فجاؤوا بحاتم فأكرمته وبعد ان رحل عنها دعته نفسه إليها فأتاها يخطبها، فوجد عندها النابغة ورجلاً من الأنصارمن النبيت، فقالت: انقلبوا إلى رحالكم وليقل كلّ منكم شعراً يذكر فيه فعاله ومنصبه، فإنّي أتزوج أكرمكم واشعركم. فانصرفوا فنحر كلّ واحد منهم جزوراً، ولبست ماويّة ثياباً لأمةٍ لها فأعقبتهم، فأتت النّبيتيّ، فاستطعمته من جزوره فأطعمها ثيل جزوره - أي: وعاء قضيبه - فاخذته ثم أتت نابغة بني ذبيان فاستطعمته فأطعمها ذنب جمله، فأخذته ثم أتت حاتماً وقد نصب قدره فاستطعمته، فقال لها: قريّ حتى أعطيك ما تنتفعين به. فأعطاها من العجز والسّنام، ومثلها من المخدّش، وهو عند الحارك ، ثم انصرفت فأرسل إليها كلّ واحدٍ ظهر جمله، وأهدى حاتم إلى جاراتها مثل ما أهدى إليها. وصبّحوها فاستنشدتهم، فأنشدها النّبيتيّ: البسيط هلاّ سألت النّبيتيين ما حسبي *** عند الشّتاء إذا ما هبّت الرّيح وبعده أبيات ثلاثة. ثم قالت: أنشدنا يا نابغة، فأنشده: البسيط هلاّ سألت بني ذبيان ما حسبي *** إذا الدّخان تغشّى الأشمط البرما وبعده بيتان، ثم قالت: يا أخا طّيئ، أنشدنا. فأنشدها: أماويّ قد طال التّجنّب والهجر *** وقد عذرتني في طلابكم العذر إلى آخر القصيدة. فلمّا فرغ حاتمٌ من إنشاده دعت بالغداء، وكانت قد أمرت إماءها أن يقدّمن إلى كلّ رجل ما كان أطعمها، فقدّمن إليهم ما كانت أمرتهنّ أن يقدّمنه، فنكّ؟س النّبيتيّ والنابغة رأسيهما؛ فلما نظر حاتم ذلك رمى بالذي قدّمته إليهما، وأطعمهما مّما قدّم إليه، فتسلّلا منها. وقالت: إنّ حاتماً أكرمكم وأشعركم. فلما خرجا قالت: يا حاتم، خلّ سبيل امرأتك، فأبى، فزودته. فلما انصرف عنها ماتت امرأته، فعاد إليها فتزوّجها فولدت له عديّاً. وقد كان عديّ أسلم وحسن إسلامه مختصراً. والصّحيح أن عديّاً من امرأته نوار، لا من ماويّة. والله أعلم. وترجمة حاتم الطّائيّ قد تقدّمت في الشاهد التاسع والسبعين بعد المائة. وأنشده بعده: ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني تمامه: فمضيت ثّمت قلت لا يغنيني وقد تقدّم قريباً. وأنشد بعده: هو وهو من شواهد س: الكامل لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشّع على أنّ سوراً اكتسب التأنيث من المدينة، ولهذا أنث له الفعل. قال الأعلم في شرح شواهد س: إنّ السّور، وإن كان بعض المدينة لا يسمّى مدينة، كما يسمّى بعض السنين سنة، ولكن الاتساع فيه متمكن، لأنّ معنى تواضعت المدينة وتواضع سور المدينة متقارب . وذهب أبو عبيدة معمر بن المثنّى إلى أنّ السّور جمع سورة، وهي كلّ ما علا؛ وبها سمّي سور المدينة سوراً. وعلى هذا لا شاهد في البيت. قال السيرافيّ: والجبال الخشّع مبتدأ وخبرٌ عند بعضهم، أي: وصارت الجبال خاشعة متضائلة؛ لأنّه لا مدح في قولنا تواضعت الجبال المتضائلة، بل تواضعت الجبال الشامخة، لكنّه وصفها بما آلت إليه. وقال بعضهم: هو معطوف على سور المدينة، والخشّع صفة له؛ ولم يرد أنّها كانت خشّعاً قبل، بل هي خشّع لموته الآن. وأراد: لما أتى خبر قتل الزّبير وتواضعت وقعت إلى الأرض. والخشّع: التي قد لطئت بالأرض. وهذا البيت من قصيدة لجرير، عدّتها مائة وعشرون بيتاً هجا بها الفرزدق وعدّد فيها معايبه، منها أنّ ابن جرمور المجاشعيّ - وهو من رهط الفرزدق - قتل الزّبير بن العوّام غيلةً بعد انصرافه من وقعة الجمل، فهو ينسبهم إلى أنّهم غدروا به لأنّهم لم يدفعوا عنه. يقول: لّما وافى خبر قتل الزّبير إلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، تواضعت هي وجبالها، وخشعت حرناً له. وهذا مثل، وإنّما يريد أهلها. وقبل هذا البيت: الكامل إنّ الرّزيّة من تضمّن قبره *** وادي السّباع لكلّ جنبٍ مصرع وبعده: وبكى الزّبير بناته في مأتمٍ *** ماذا يردّ بكاء من لا يسمع ووادي السباع على أربعة فراسخ من البصرة. ثم إنّ ابن جرموز قدم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهنأه بالفتح وأخبره بقتله ال.ّبير، فقال له عليّ: أبشر بالنار، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: بشّر قاتل ابن صفيّة بالنّار . وفي ذلك قال ابن جرموز: المتقارب أتيت عليّاً برأس الزّبير *** وقد كنت أحسبها زلفه فبشّر بالنّار في قتله *** فبئس بشارة ذي التّحفه ثم إن ابن جرموز جاء إلى مصعب بن الزّبير - وكان والياً على العراق من قبل أخيه عبد الله - فقال: اقتلني بالزّبير! فكتب في ذلك إلى أخيه، فكتب إليه عبد الله: أنا لا أقتله بالزّبير ولا بشسع نعله. فلم يقتله، ومضى ابن جرموز من عند مصعب. وقصّة مقتل الزّبير مفصّلة في التّواريخ. وترجمة جرير قد تقدّمت في الشاهد الرابع من أول الكتاب. وأنشد بعده: وهو وهو من شواهد س: الوافر إذا بعض السنين تعرّقتن *** كفى الأيتام فقد أبي اليتيم لما تقدّم قبله، وهو أنّ بعضاً اكتسب التأنيث مّما بعده بالإضافة؛ ولهذا قال تقرّقتنا بالتأنيث. قال ابن جنّي في سرّ الصناعة عندما أنشد قول الشاعر: البسيط سائل بني أسدٍ ما هذه الصّوت إنّما أنّثه لأنّه أراد الاستغائة. وهذا من قبيح الضرورة، أعني تانيث المذكّر؛ لأنّ التذكير هو الأصل، بدلالة أنّ الشيء مذكّر وهو يقع على المذكّر والمؤنث، فعلمت بهذا عموم التذكير وأنّه هو الأصل الذي لا ينكسر. ونظير هذا في الشذوذ قوله - وهو من أبيات الكتاب -: إذا بعض السنين تعرّقتن *** كفى الأيتام فقد أبي اليتيم وهذا أسهل من تأنيث الصّوت قليلاً، لأنّ بعض السنين سنة، وهي مؤنثة، وهي من لفظ السنين؛ وليس الصّوت بعض الاستغائة ولا من لفظها. انتهى. وزاد المبّرد في الكامل على هذا الوجه وجهاً آخر فقال: قوله: إذا بعض السنين تعرّقتن *** كفى الأيتام فقد أبي اليتيم يفسّر على وجهين: أن يكون ذهب إلى أنّ بعض السّنين يؤنّث لأنّه سنة وسنون. والأجود أن يكون الخبر في المعنى عن المضاف إليه فأقحم المضاف إليه توكيداً، لأنّه غير خارجٍ من المعنى. وفي كتاب الله عز وجل: {فظلت أعناقهم لها خاضعين والخضوع بيّن في الأعناق، فأخبر عنهم فأقحم الأعناق توكيداً - وكان أبو زيد الأنصاريّ يقول: أعناقهم: جماعتهم - والأوّل قول عامّة النّحويّين. انتهى المراد منه. وبغض: فاعل فعل محذوف يفسّره تعرّقتنا المذكور؛ يقال تعرقت العظم: إذا أكلت ما عليه من اللّحم. يريد أنها أذهبت أموالنا ومواشينا. والسّنة هنا: القحط والجدب: ضدّ الخصب والرّخاء. وكفى بمعنى أغنى يتعدّى إلى مفعولين، أوّلهما الأيتام وثانيهما فقد ، ومصدره الكفاية، قال تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال أي: كفى الأيتام فقد آبائهم، لأنّه أنفق عليهم واعطاهم ما يحتاجون إلأيه، وكان في الكفاية لهم ةالحراسة والتّفقدّ لأحوالهم بمنزلة آبائهم. وأراد أن يقول: كفى الأيتام فقد أبائهم فلم يمكنه فقال: فقد أبي اليتيم؛ لأنّه ذكر الأيتام أوّلاً، ولكنّه أفرد حملاً على المعنى؛ لأنّ الأيتام هنا اسم جنس، فواحدها ينوب مناب جمعها، وبالعكس. وكان المقام مقام الإضمار فأتى بالاسم الظاهر. وهذا البيت من قصيدة لجرير مدح بها هشام بن عبد الملك بن مروان. وأنت إذا نظرت إلى هشامٍ *** عرفت نجار منتخبٍ كريم يرى للمسلمين عليه حقّ *** كفعل الوالد الرؤف الرّحيم إذا بعض السّنين تعرّقتن *** كفى الأيتام فقد أبي اليتيم والنجار بكسر النون وبعدها جيم: الأصل. وقوله: يرى للمسلمين عليه حقّاً ، له مثله في قوله أيض: الطويل وإنّي لأستحي أخي أن أرى له *** عليّ من الحقّ الذي لا يرى ليا قال المبّرد في الكامل: هذا بيت يحمله الناس على خلاف معناه، وإنّما تأويله إنّي لأستحي أخي أن يكون له عليّ فضلٌ، ولا يكون لي عليه فضلٌ ومنّي إليه مكافأة، فأستحي أن أرى له عليّ حقّاً بما فعل إليّ، ولا أفعل إليه ما يكون لي به عليه حقّ. وهذا من مذاهب الكرام. وأما قول عائد الكلب الزّبيريّ لعبد الله ابن حسن بن حسن بن عليّ رضي الله عنهم: الوافر . له حقّ وليس عليه حقّ *** ومهما قال الحسن الجميل وقد كان الرّسول يرى حقوق *** عليه لغيره، وهو الرّسول فإنّه ذكره بقلّة الإنصاف فقال: يرى له حقّاً على الناسولا يرى لهم عليه حقاً، من أجل نسبه بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم. وقد قيل لعليّ بن الحسين بن عليّ رضي الله عنهم: ما بالك إذا سافرت كتمت نسبك أهل الرّفقة؟ فقال: أكره أن آخذ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما لا أعطي مثله. وأنشده بعده: وهو وهو من شواهد س: الرجز مرّ الليالي أسرعت في نقضي *** أخذن بعضي وتركن بعضي إلى أنّ مرّ اكتسب التأنيث من المضاف إليه، ولهذا قال: أخذن. وسيبويه جعل محلّ الشاهد أسرعت؛ ففي البيت قد اكتسب المذكّر فيه التأنيث بوجهين: أحدهما: التأنيث فقط - وهو بالنظر إلى قوله أسرعت -. وثانيهما: التأنيث والجمعيّة - وهو بالنظر إلى قوله أخذن - وكان المناسب للشارح المحقّق أن يضمّ هذا البيت الذي بعده: ويوافق سيبويه ومن تبعه. ويروى: طول اللّيالي قال ابن خلف: الشاهد فيه أنّه قال: أسرعت، فأنّث الضمير الذي هو فاعل أسرعت. ويجب أن يكون مذكراً لأنذه ينبغي أن يعود إلى المبتدأ، والمبتدأ مذكّر وهو الطّول. وإنّما أنّثه لأنّه أضاف الطّول إلى اللّيالي، وليس الطّول شيئاً غيرها؛ فأخلص الخبر لليالي دون الطّول. فقد بان لك أنّ معنى طول اللّيالي أسرعت؛ واللّيالي أسرعت سواء. انتهى. وهذا ناظرٌ إلى الوجه الثاني من وجهي كلام المبّرد المنقول عنه في البيت السابق. وقال أبو عليّ الفارسيّ في التّكرة القصريّة: قول ذي الرّمّة: الطويل مشين كما اهتزّت رماحٌ تسفهت *** أعاليها مرّ الرّياح النّواسم أحسن من قوله: طول اللّيالي أسرعت في نقضي لأنّ الريح لا تكون ريحاً إلاّ بمرورها، ومدافعة الهواء بعضه بعضاً، فحسن أن تجعل هي هو. وليس طول اللّيالي كذلك، لأنّ اللّيل قد يكون ليلاً وإنم لم يكن طويلاً. انتهى. وفيه نظر: فإنذه ليس مراد الشاعر أنّ الليالي الطّوال دون القصار أسرعت في نقضه، وإنّما يريد تكرار الزّمان لياليه وأيّامه، طالت اللّيالي وقصرت، والزمان لا ينفك عن التّكرار كما لا تنفكّ الريح عن الهبوب والمرور. وهذا لازم، فتأمّل. وروي البيت: إنّ اللّيالي أسرعت ورواه الجاحظ أيضاً في البيان: أرى اللّيالي أسرعت وعلى هاتين الرّوايتين لا شاهد فيه. وروى المصراع الثاني هكذا أيضاً: نقضن كلّي ونقضن بعضي والنقض: هدم البناء حجراً فحجرا وهذان البيتان من أجوزة للأغلب العجليّ ذكرهما أبو حاتم في كتاب المعمّرين ، وأورد بعدهما: حنين طولي وحنين عرضي *** أقعدنني من بعد طول نهضي وكان الأغلب العجليّ مّمن عمّر عمراً طويلاً في الجاهليّة والإسلام. اسلم واستشهد بوقعة نهاوند. وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين بعد المائة. وزعم أبو محمد الأعربيّ في فرحة الأديب انّ هذا الرجز ليس للأغلب، وإنّما هو من شوارد الرّجز لا يعرف قائله. ومن حفظ حجّةٌ على من لم يحفظ. وقد رواه للأغلب صاحب الأغاني أيضاً، قال أبو محمد، وهو كذ: الرجز أصبحت لا يحمل بعضي بعضي *** منفّهً أروح مثل النّقض مرّ اللّيالي أسرعت في نقضي *** طوين طولي وطوين عرضي ثم التحين عن عظامي نحضي *** أقعدتني من بعد طول نهضي وأنشد بعده: وهو الوافر وما حبّ الدّيار شغفن قلبي *** ولكن حبّ من سكن الدّيارا على أنّ المضاف وهو حبّ اكتسب التأنيث والجمعيّة بإضافته إلى الديار، وهو جمع دارٍ، وهو مؤنث سماعيّ. وهذا واضح. وقد يكتسب المضاف الجمعية فقط كقوله: الطويل وكم ذدت عنّي من تحامل حادثٍ *** وسورة أيّام حززن إلى اللّحم فسورة اكتسبت الجمعيّة من إضافتها إلى أيّام، ولهذا أعيد الضمير من حززن جميعاً. والفرق بينه وبين ما حبّ الديار شغفن، أنّ هذا اكتسب التانيث بصفته أعني الجمعيّة، فلم يتمحض لاكتساب الجمعية، كما في: وسورة أيام حززن. وبقي أشياء لم يذكرها الشارح المحقّق مما تكسبه الإضافة، منها تذكير المؤنّث عكس ما ذكره كقوله: البسيط إنارة العقل مكسوفٌ بطوع هوىً *** وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا ومنها الظرفيّة، نحو قوله تعالى: {تؤتى أكلها كلّ حين . ومنها المصدرية نحو قوله تعالى: {وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون . فأيّ: مفعول مطلق ناصبه ينقلبون، ويعلم معلّق عن العمل معلّق عن العمل بالاستفهام. ومنها وجوب التصدّر نحو: غلام من عندك؟ ونحو صبيحة أيّ يوم سفرك؟ ونحو: غلام أيّهم أكرمت؟ ونحو: غلام أيّهم أنت أفضل؟ والبيت الشاهد لجنون بني عامر. وقبله: أمرّ على الدّيار ديار ليلى *** أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وهما بيتان لا ثالث لهما. روي أنّه كان إذا اشتد شوقه إلى ليلى يمرّ على آثار المنازل التي كانت تسكنها، فتارة يقبّلها، وتارة يلصق بطنه بكثبان الرّمل ويتقلّب في حافاتها، وتارة يبكي وينشد هذين البيتين. والديّار: المنازل، قال الكرمانيّ في شرح شواهد الموشّح: قال أبو حاتم: الدّيار: العساكر والخيام، لا البنيان والعمران؛ وإنّ الدّار العمران والبنيان، وعليه قوله تعالى في سورة هود: فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي: في عساكرهم وخيامهم؛ وفي سورة الأعراف والعنكبوت: فأصبحوا في دارهم جاثمين أي: في مدينتهم المعمورة. ولو أراد غير ما قيل لجمع الدار. فعلم من كلامه أنذ الديار مخصوص بالخيام؛ انتهى كلامه. وهذه غفلة عن قول الشاعر: أقبل ذا الجدار وهو حائط البيت. ثم قال: ويجوز أن يكون الديار جمع دارة. قال محمد بن جعفر في كتاب دارات العرب: اعلم أنّهم يقولون لدار الردل التي سكنها دارة، ويجمعونها دارات ودور وديار. وذا اسم إشارة. وشغف الهوى قبله شغفاً، من باب نفع، والاسم الشّغف بفتحتين: بلغ شغافة بالفتح، وهو غشاؤه. والمجنون: اسمه قيس بن معاذ، ويقال قيس بن الملّوح، أحد بني جعدة ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة؛ ويقال بل هو من بني عقيل بالتصغير ابن كعب بن ربيعة. وهو من أشعر الناس، على أنّهم قد نسبوا إليه شعراً كثيراً رقيقاً يشبه شعره، كقول أبي صخر الهذليّ: الطويل فيا هجر ليلى قد بلغت به المدى *** وزدت على ما لم يكن بلغ الهجر ويا حبّها زدني جوىً كلّ ليلةٍ *** ويا سلوة العشّاق موعدك الحشر وقال الجاحظ: ما ترك الناس شعراً مجهولاً لقائل فيه ذكر ليلى إلاّ نسبوه إلى المجنون، ولا فيه لبنى إلاّ نسبوه لقيس بن ذريح. وفي الأغاني: اختلف في وجوده: فذهب قومٌ إلى أنه مستعار لا حقيقة له، وليس له في بني عامر أصل ولا نسب. وقال الأصمعيّ: رجلان ما عرفا في الدنيا إلاّ بالاسم: مجنون بني عامر، وابن القرّيّة، وإنّما وضعهما الرواة. قيل له: فمن قال هذه الأشعار المنسوبة إليه؟ قال فتىً من بني مروان، كان يهوى امرأةً منهم فقال فيها الشعر، وخاف الظهور فنسبه إلى المجنون، وعمل له أخباراً وأضاف إليها ذلك، فحمله الناس وزادوا فيه. وقال الذهبيّ في تاريخ الإسلام انكر بعض الناس ليلى والمجنون؛ وهذا دفعٌ بالصدر، فليس من لا يعلم حجّة على من يعلم، ولا المثبت كالنافي. وعلى القول بوجوده اختلف في اسمه: فقيل مهدي، وقيل قيس بن معاذ، وقيل غير ذلك. والأصحّ أنّه قيس بن الملّوح بن مزاحم بن قيس بن عديّ بن ربيعة بن جعدة بن كعب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة؛ وصاحبته ليلى بنت مهديّ، أم مالك العامريّة. قال ابن قتيبة: وكان المجنون وليلى صاحبته يرعيان البهم وهما صبيّان، فعلقها علاقة الصبيّ وقال: الطويل تعلّقت ليلى وهي غرّ صغيرة *** ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّن *** صغيران لم نكبر ولم تكبر البهم ثم نشأ وكان يجلس معها، ويتحدّث في ناس من قومه، وكان ظريفاً جميلاً روايةً للشعر حلو الحديث، فكانت تعرض عنه وتقبل بالحديث على غيره، حتّى شقّ ذلك عليه وعرفته فقالت: الوافر كلانا مظهر للنّاس بغض *** وكلّ عند صاحبه مكين تبلّغنا العيون بما رأين *** وفي القلبين ثم هوىً دفين ثم تمادى به الأمر، حتّى ذهب عقله، وهام مع الوحش، وصار لا يلبس ثوباً إلاّ خرّقه، ولا يعقل إلاّ أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت عقل واجاب عن كلّ ما يسأل عنه. ثم إنّ قوم ليلى شكوا منه للسلطان، فأهدر دمه، وترحّل قومها من تلك الناحية، فأشرف فرأى ديارهم بلاقع، فقصد منزلها، وألصق صدره به، وجعل يمرّغ خديّه على التراب ويقول الأشعار. ثم إنّ أباه قيّده؛ فجعل يأكل لحم ذراعيه، ويضرب نفسه، ويعض لسانه وشفتيه، فأطلقه. وروي أنّ نوفل بن مساحق لّما جاء ساعياً على صدقات بني عامر، رأى المجنون يلعب بالتّراب وهو عريان، فقال لغلام له: خذ ثوباً وألقه عليه. فقالوا له: ألا تعرفه؟ قال: لا. قالوا: هذا المجنون قيس بن الملّوح؛ كلّمه فجعل يجيبه بغير ما يسأله عنه؛ فقالوا له: إن أردت أن يكلّمك كلاماً صحيحاً فاذكر له ليلى. فقال: أتحبّ ليلى؟ فأقبل عليه يحدّثه عنها وينشده شعره فيها، فقال له: أتحبّ أن أزوّجكما؟ قال: وتفعل ذاك؟ قال: نعم، اخرج معي حتّى أقدم بك على قومها فأخطبها لك. فارتحل معه ودعا له بكسوة، فلبسها وراح معه كأصحّ أصحابه، فلمّا قرب من قومها تلقّوه بالسّلاح، وقالوا: والله يا ابن مساحق لا يدخل المجنون لنا بيت ونقتل عن آخرنا، وقد أهدر لنا السّلطان دمه! فأقبل بهم وأدبر، فأبوا عليه، فقال له: انصرف. فقال: أين ما وعدت؟ قال: رجوعك بالخيبة أهون عليّ من سفك الدّماء. ثم هام على وجهه في الفلوات، وأنس بالوحوش فكان لا يأكل إلاّ ما تنبت الأرض من البقول، ولا يشرب إلاّ مع الظّباء، وطال شعر جسده ورأسه، وألفته الوحوش، وكان يهيم حتّى يبلغ حدود الشام، فإذا ثاب عقله سأل عن نجد فيقال: وانى نجد! فيدلّونه على طريق نجد فيتوجّه نحوه. وكان بأهله يأتونه بالطّعام والشراب، فربّما أكل منه. وفي بعض الأيّام أتوه بالطعّام فلم يروه، فانطلقوا يفتشونه فرأوه ملقىً بين الأحجار ميتاً، فاحتملوه إلى الحيّ فغسّلوه ودفنوه، وكثر بكاء النساء عليه. وكان في مدّة ابن الزّبير. وقد اطال ترجمته جداً ألو الفرج الأصبهانيّ في الأغاني . وكانت ليلى تحبّه أيضاً محبّة شديدة. حكى ابن قتيبة قال: خرج رجلٌ من بني مرّة إلى ناحية الشام والحجاز، مما يلي تيماء والسراة بأرض نجد ، بغية له، فإذا هو بخيمة قد رفعت له عظيمةٍ وقد أصابه المطر فعدل إليها، فتنحنح فإذا أمرٌ كثير عظيم، فقالت: سلوا هذا الرّاكب من أين أقبل؟ فقال: من ناحية نجد. فقالت: يا عبد الله، وأيّ بلاد نجد وطئت؟ قال: كلّها. قالت: فيمن نزلت منهم؟ قال: بني عامر. فتنفست الصّعداء ثم قالت: بأيّ بني عامر؟ قال: ببني الحريش. قالت: فهل سمعت بذكر فتىً منهم يقال له قيسٌ ويلقب بالمجنون؟ قال: إي والله، قد أتيته، فرأيته يهيم مع الوجش، ولا يعقل شيئاً حتّى تذكر له ليلى، فيبكي وينشد أشعاراً يقولها فيها. فرفعت السّتر بيني وبينها، فإذا شقّة قمرٍ لم تر عيني مثلها قط ، فلم تزل تبكي وتنتحب حتّى ظننت أنّ قلبها قد تصدّع، فقلت: يا أمة الله اتّقي الله، فو الله ما قلت بأساً! فمكثت طويلاً على تلك الحال من البكاء والنحيب، ثم قالت: الطويل ألا ليت شعري والخطوب كثيرةٌ *** متى رحل قيسٍ مستقلٌّ فراجع بنفسي من لا يستقل برحله *** ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع ثم بكت حتّى غشي عليها، فلمّا أفاقت قلت: من أنت يا أمة الله؟ قال: أنا ليلى المشؤومة عليه غير المواسية له. قال: فو الله ما رأيت مثل حزنها عليه، ولا مثل جزعها. ولا مثل وجدها!. وأنشد بعده: يا سارق اللّيلة أهل الدّار قد تقدّم الكلام عليه في الشاهد الرابع والسبعين بعد المائة. وأنشد بعده: وهو وهو من شواهد س: الرجز ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل *** طبّاخ ساعات الكرى زاد الكسل على أنّ ساعات كان في الأصل مفعولاً فيه، فاتّسع فيه فألحق بالمفعول به واضيف إليه طبّاخ. فكسرة التاء من ساعات كسرة جرّ، وزاد الكسل منصوب على أنّه مفعول طبّاخ، لأنّه معتمد على موصوفه. قال الأعلم: الشاهد فيه إضافة طبّاخ إلى ساعات، على تشبيهها بالمفعول به، لا على أنّها ظرف، ولا تجوز الإضافة إليها وهي ظرف لأنّ الظرف يقدّر فيه حرف الوعاء وهو في؛ والإضافة إلى الحرف غير جائزة، وإنما يضاف إلى الاسم. ولما أضاف الطبّاخ إلى الساعات اتّساعاً ومجازاً، عدّاه إلى الزاد، لأنّه المفعول به في الحقيقة. انتهى. وقول ثعلب في أماليه: إضافة طبّاخ إلى ساعات لا تجوز إلاّ في الشعر ممنوع. وقال ابن برّيّ في شرح أبيات الإيضاح لأبي عليّ: لا بد أن تقدّر الساعات تنزّلت منزلة المفعول به، حتى كأنها مطبوخة، وعن كان الطبّخ في المعنى إنّما هو للزاد، كما تصير اللّيلة في قوله: يا سارق اللّيلة أهل الدّار بمنزلة المفعول حتّى كأنّها مسروقة. ولما خفض ساعات بإضافة طبّاخ إليها انتصب زاد على المفعول به، لأنّه المطبوخ في الحقيقة. ومن خفض زاد الكسل قدّر الساعات ظرفاً فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه، على قولهم في الرواية الأخرى: يا سارق اللّيلة أهل الدّار انتهى كلامه. وأورده الفرّاء في تفسيره عند قوله تعالى: {فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله قال: اضيفت مخلف إلى الوعد، ونصبت الرسل على التأويل. وإذا كان الفعل يقع على شيئين مختلفين، مثل كسوتك الثوب وأدخلتك الدار تبدأ بغضافة الفعل إلى الرجل، فتقول: هو كاسي عبد الله ثوباً ومدخله الدار، ويجوز هو كاسي الثوب عبد الله ومدخل الدار زيداً، جاز ذلك لأنّ الفعل قد يأخذ الدار كأخذه عبد الله. ومثله قول الشاعر: الطويل ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه *** وسائره بادٍ إلى الشّمس أجمع فأضاف مدخل إلى الظلّ، وكان الوجه أن يضيف مدخل إلى الرأس. ومثله: ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل *** طبّاخ ساعات الكرى زاد الكسل ومثله قول الآخر: يا سارق اللّيلة أهل الدّار يريد: يا سارق أهل الدّار اللّيلة، فأضاف سارقاً إلى اللّيلة ونصب أهل الدار. وكان بعض النحويين ينصب الليلة ويخفض أهل الدار. انتهى المراد منه. وقال ابن الشجريّ في أماليه وغيره: وروي بجرّ زاد أيضاً؛ على أنّ طباخاً قد أضيف إليه وفصل بينهما الظرف وهو ساعات، فتكون الكسرة فيه نائبة عن الفتحة وهو منصوب لا مجرور. قال: ومثل هذا جائز في الشعر كقوله: يا سارق اللّيلة أهل الدّار يريد: يا سارق أهل الدار الليلة. انتهى. وقال ابن خلف: ويجوز أن يكون زاد الكسل بدل اشتمال من موضع ساعات، ألا ترى أن الزّاد تبيينٌ لما يطبخ في الساعات، وهي مشتملة على الزاد وغيره، ويجوة أيضاً نصب زاد بفعل دلّ عليه طبّاخ، أي: يطبخ زاد الكسل. هذا كلامه فتأمّله. وقوله: مشمعل صفة لمجرور ربّ بعد وصفه بقوله لسليمى. والمشمعلّ: الجادّ في الأمر الخفيف في جميع ما أخذ فيه من العمل، وهو مشدّد اللام إلاّ أنّه سكّنها للشعر. قال المبّرد في الكامل: أمر مصعب بن الزّبير رجلاً من بني أسد بن خزيمة يقتل مرّة بن محكان السعديّ، فقال مرّة: الطويل بني أسدٍ إن تقتلوني تحاربو *** تميماً إذا الحرب العوان اشمعلت ولست وإن كانت إليّ حبيبةً *** بباكٍ على الدّنيا إذا ما تولت قال المبّرد: واشمعلت: ثارت فأسرعت. وأنشد: ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل وطبّاخ صفة ثالثة لمجرور ربّ. والكرى: النعاس. والكسل بفتح الكاف وكسر السين، بمعنى الكسلان، إلاّ أنّ في كسلان مبالغة ليست في الكسل وهو المتثاقل المتواني. يقول: إذا كسل أصحابه عن طبخ الزاد، عند نزولهم آخر الليل وغلبة النعاس عليهم، كفاهم ذلك وشمّر في خدمتهم. وصفة بالنشاط والمضيّ في الأمور وقت كسل أصحابه وفتورهم. والعرب تفتخر بمثل هذا. وروى المبرد في الكامل هذا الرجز كذ: الرجز ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل *** أروع في السّفر وفي الحيّ غزل طبّاخ ساعات..... إلى آخره والأروع: السيد الذي يروعك عظمته وعزّته. والسّفر: جمع سافر، كصحب جمع صاحب، يقال: سفرت، أي: خرجت إلى السفر، فأنا سافر وقوم سفر. وغزل بفتح الغين وكسر الزاي المعجمتين، يقال: رجلٌ غزل: أي صاحب غزل، وهو محادثة النساء ومراودتهنّ. وهذا الإعراب هو مقتضى هذه الرواية، وستأتي الرواية الأصلية . وقد نسب المبرد هذا الرجز إلى الشمّاخ بن ضرار، وهو من رجز لجبّار بن جزء أخي الشمّاخ يتعلق بعمّه الشمّاخ. وهذا مدحٌ فيه. وهو من جملة أوجازٍ لجماعة، لها حكايةٌ مسطورة في آخر ديوان الشمّاخ محصّلها: أنّ الشمّاخ أقبل من مصر ومعه أولاد إخوته، في ناس من قومه، منهم جندب بن عمرو، وكان الشمّاخ وأصحابه يبغضونه لأنّه كان يتحدّث إلى امرأة الشمّاخ، حتّى إذا كانوا قريباً من تيماء على رأس ماء يقال له ثجر بفتح المثلثة وسكون الجيم قال الشمّاخ لحسن بن مزرد: انزل أحد بالقوم - وكانوا كذلك يفعلون: ينزل الرجل فيسوق بأصحابه ويرتجز بهم - وأمره أن يعرّض بامرأة جندب؛ فقال: الرجز خليل خودٍ غرّها شبابه *** إلى آخر الرّجز فنزل جندب وحدا بالقوم، وعرّض بامراة الشمّاخ، وكانت أمّ صبيّ، واسمها سليمى، فقال: الرجز طيف خيالٍ من سليمى هائجي إلى أن قال: الرجز يا ليتني غير حارج *** قبل الرّواح ذات لون باهج أمّ صبيّ قد حب ودارج *** غرثى الوشاح كزّة الدّمالج فغضب الشمّاخ لما عرّض بامرأته، فنزل وساق بالقوم، ورجز رجزين عرّض فيهما بامرأة جندب إلى أن نزل، وحدا جماعة من طرف هذا وجماعة من قبل ذاك، وكلّ رجل يتعصب لصاحبه، إلى أن تواثبوا بالسيوف. وكان معهم رجل من بني أسد، فاقتحم بينهم فقال: يا قوم نهشت نهشت! فلم يزالوا يسقونه السّمن واللّبن حتّى لهوا عن قتالهم، فأصبحوا وقد سكنوا. وهذا رجز جبّار ابن أخي الشمّاخ بتمامه: قالت سليمى لست بالحادي المدل ما لك لا تملك أعضاد الإبل المدل: الذي أدلّ بقوةٍ على شدّة السير. يقول: مالك تتخلف عن الإبل لا تكون عند أعضادها. وهذا خطاب لجندب بأنه ضعيف لا جلد له. ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل يحبه القوم وتشناه الإبل أراد بابن العمّ زوجها الشمّاخ. ويحبّه القوم لأنه يعينهم ويخدمهم مساعدة. وتشنؤه الإبل: أي تبغضه، لأنّه يسوقها سوقاً عنيفاً بالحداء. ويحبّه: جواب ربّ العامل في محل مجرورها. في الشّول وشواشٌ وفي الحيّ رفل طبّاخ ساعات الكرى زاد الكسل أحوس وسط القوم بالرّمح الخطل الشّول ، بالفتح: الإبل التي شوّلت ألبانها، أي: رفعته. والوشواش ، بمعجمتين: الخفيف المتسرّع. والرّفل ، بكسر الراء وفتح الفاء واللام المشدّدة سكنت للوزن: اللابس الثياب المتجمل بها. يريد أنه خفيف جلد في السّفر يخدمنها ويراعيها وفي الإقامة في الحيّ متنعم متحملّ. والجملتان اسميتان وقد روي بدل هذا البيت ما نقلناه عن المبّرد. وقوله: طبّاخ ، بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هو طبّاخ كما هو الظاهر من السيّاق، بخلاف ما تقدّم. وفي طبّاخ مبالغة دون طابخ. والأحوس ، بمهملتين: الرجل الشديد الذي لا يبرح عند القتال. والخطّل بفتح الخاء وكسر الطاء؛ الطويل جداً فوق القدر. عاذلتي أبقي قليلاً من عذل *** وإن تقولي هالك أقل أجل عاذلتي: منادى. والعذل: اللوم. ومن متعلّقة بمحذوف. وهالك ، أي: أنت هالك. وأجل: بمعنى نعم. قربت عنساً خلقت خلق الجمل *** لا تشتكي ما لقيت من العمل قربت بالتكلم والبناء للفاعل. والعنس بالنون: الناقة الصّلبة. كأنها والنّسع عنها قد فضل *** ونهل السّوط بدفيها وعل مولع يقرو صريماً قد نقل يريد: أن ناقته ضمرت فاسترخت نسوعها أي: سيورها. ونهل السّوط بدفّيها أي: بجنبيها. وعلّ أي: ضربت بالسوط مرّة بعد مرّة. والمولّع ، بصيغة اسم المفعول: الثور الوحشيّ، شبّه ناقته في حال كلالها وتعبها بالثور الوحشيّ في حال ما رأى الصياد وقد أمسى الليل عليه، فهو يسرع أشدّ ما يمكن. ويقرو بالقاف، يقال: قروت البلاد قرواً، وقريتها، واستقريتها: إذا تتبعتها تخرج من أرض إلى أرض. والصّريم: القاطع؛ يريد رفيقه الذي صرمه ونقل رجله عنه فسبقه. صبّ عليه قانصٌ لمّا غفل *** والشّمس كالمرآة في كفّ الأشل مقلدات القدّ يقرون الدّعل قانص: فاعل صبّ؛ أي: أرسل قانصٌ على الثور لّما غفل كلاباً. وجملة: والشمس كالمرآة، حال إمّا من قانص، ومن فاعل غفل ومن ضمير عليه، وهما ضمير الثور، يريد في حالة أنّ الشمس قد تنكبت للمغيب. والأشلّ: الذي يبست يده فلا يمسكها إلاّ منكّسة. والمقلدات ، بصيغة اسم المفعول، يريد كلاباً عليها قلائد من السيّور؛ وهو مفعول صبّ. ويقرون: يتبعن ويطلبن. والدّعل ، بفتح الدال والعين المهملتين؛ قال ابن الأعرابي: هو الختل؛ وهو يداعله، أي: يخاتله. وقوله: والشمس كالمرآة، الخ أورده القزويني: في تلخيص المفتاح في باب التشبيه، وعدّه من التشبيه الغريب. ولم يزد العبّاسيّ شارح شواهد التلخيص على قوله: اختلف في قائل هذا البيت، فقيل للشمّاخ، وقيل لأخيه، وقيل لأبي النّجم وقيل لابن المعتز. وجبّار قائل هذا الرجز هو بفتح الجيم والباء الموحّدة ومعناه ذو الجبرية والعظمة، يقال: قوم فيهم جبرية، بفتح الباء، أي: عظمة وكبر. ونسبه تقدّم في ترجمة عمّه الشمّاخ في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائة. وأنشد بعده: وهو وهو من شواهد س: الطويل ضروبٌ بنصل السّيف سوق سمانه *** إذا عدموا زاداً فإنك عاقر على أنّ أبنية المبالغة لكونها للاستمرار، لا لأحد الأزمنة، عملت. ف ضروب مبالغة ضارب، وقد عمل النصب في سوق على المفعولية. قال ابن ولاّد: سألت أبا إسحاق الزجّاج: لم صار ضروبٌ ونحوه يعمل وهو بمنزلة ما استقرّ وثبت، وضاربٌ لا يعمل إذا كان كذلك؟ فقال: لأنك تريد أنّها حالة ملازمة هو فيها، ولست تريد أنه أفعل مرّة واحدة وانقضى الفعل كما تريد في ضارب، فإذا قلت: هذا ضروبٌ رؤوس الرجال، فإنما هي حال كان فيها فنحن نحكيها. قال ابن عصفور: هذا هو الصحيح، والدليل على صحّته قول أبي طالب: ضروب بنصل السّيف الخ لأنّه مدح به أبا أميّة بن المغيرة بما ثبت له واستقرّ، وحكى الحال التي كان فيها من عقر الإبل إذا عدم الزاد. ولو أراد المضيّ المحض ولم يرد حكاية حاله، لما ساغ الإتيان بإذا، لأنّها للمستقبل. قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل: نصل شفرته، أي: حدّه الذي يقطع به، فلذلك أضافه إلى السيف كلّه نصلاً. وسوق: جمع ساق. والسّمان: جمع سمينة. والضمير للإبل. وعقر البعير بالسيف عقراً: ضرب قوائمه. لا يطلق العقر في غير القوائم. وكانوا يعقرون الناقة إذا أرادوا نحرها: إمّا لتبرك فيكون أسهل لنحرها؛ وليعاجل الرجل ذلك فلا تمنعه نفسه من عقرها فيكون قد عاجلها لئلاّ تأمره بغير ما في نفسه. وضروب: خبر مبتدأ محذوف أي: هو ضروب. فقوله: فإنّك عاقر ، التفات. قال بعضهم: ولو قدّر أنت ضروب لكان الالتفات معدوماً فيه، ويكون إنّك عاقر على مقتضى الظاهر. وإذا شرطيّة تجزم في الشعر. وجملة عدموا شرطها في محلّ جزم وهي العامل في إذا، والجملة المقرونة بالفاء جوابها. ولا يجوز أن يكون عاقر عاملاً في إذا، لأنّ ما بعد إنّ لا يعمل فيما قبلها، لأنّها حرف، والحرف لا يتقدّم معموله ولا معمول معموله عليه. وقيل إذا هنا شرطيّة غير جازمة. قال ابن هشام في المعني: وفي ناصبها مذهبان: أحدهما: أنّه شرطها - وهو قول المحقّقين - فتكون بمنزلة متى وحيثما وأيّان. وقول أبي البقاء إنّه مردود بأنّ المضاف إليه لا يعمل في المضاف؛ غير وارد، لأنّ إذا عند هؤلاء غير مضافة كما يقوله الجميع إذا جزمت، كقوله: الكامل وإذا تصبك خصاصةٌ فتجملّ والثاني: أنه ما في جوابها من فعل وشبهه، وهو قول الأكثرين. انتهى. وعلى هذا اقتصر اللّخميّ في شرح أبيات الجمل فقال: العامل في إذا فعل محذوف دلّ عليه عاقر، والتقدير: إذا عدموا زاداً عقرت. ولا يجوز أن يعمل في إذا عاقر، لأنّه لا يعمل ما بعد إنّ فيما قبلها. والعجب من العينيّ هنا فإنّه بعد أن ذهب إلى أنّها شرطيّة جازمة، قال: والعامل فيها فعل محذوف دلّ عليه عاقر، أي: عقرت. ولا يخفى تعسّفه. وقيل إذا ظرفيّة وليست شرطيّة؛ وعاملها ضروب. وهذا ركيك والأوّل هو البليغ. وهذا البيت من قصيدةٍ لأبي طالبٍ عمّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رثى بها أبا أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان ختنه، فخرج تاجراً إلى الشام فمات بموضع يقال له: سرو سحيم، فرثاه أبو طالب بهذه القصيدة. كذا في شروح أبيات سيبويه وأبيات الجمل وغيرها، إلاّ أنّ في بعض نسخ ما ذكرنا سقطاً من الكتاب، وهو أنهم حذفوا المضاف من أبي أميّة، والصواب إثباته كما يأتي بيانه. وغلظ بعضهم فزعم أنّها مدحٌ في مسافر بن أبي عمرو. وأفحش من هذا القول قول ابن الشجريّ في أماليه إنّها مدحٌ في النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والقصيدة هذه: الطويل أرقت ودمع العين في العين غائر *** وجادت بما فيها الشّؤون الأعاور كأنّ فراشي فوقه نار موقدٍ *** من اللّيل وفوق الفراش السّواجر على خير حافٍ من قريش وناعلٍ *** إذا الخير يرجى وإذا الشّرّ حاضر ألا إنّ زاد الرّكب غير مدافعٍ *** بسرو سحيمٍ غيّبته المقابر بسرو سحيم عارفٌ ومناكرٌ *** وفارس غاراتٍ خطيبٌ وياسر تنادوا بأن لا سيّد الحيّ فيهم *** وقد فجع الحيّان كعبٌ وعامر وكان إذا يأتي من الشام قافل *** تقدّمه تسعى إلينا البشائر فيصبح أهل الله بيضاً كأنّم *** كستهم حبيراً ريدةٌ ومعافر ترى داره لا يبرح الدّهر عنده *** مجعجعة كومٌ سمانٌ وباقر إذا أكلت يوماً أتى الغد مثله *** زواهق زهمٌ ومحاضٌ بهازر ضروبٌ بنصل السّيف سوق سمانه *** إذا عدموا زاداً فإنّك عاقر فإلاّ يكن لحمٌ غريضٌ فإنّه *** تكبّ على أفواههنّ الغرائر فيا لك من ناعٍ حبيت بألّةٍ *** شراعيّةٍ تصفرّ منها الأظافر الغائر: من غار الماء في الأرض غوراً: ذهب فيها. والشؤون: جمع شأن وهو عرق ينحدر من الرأس إلى الحاجب ثم إلى العين، ومنه تجيء الدموع. والأعاور: جمع أعور؛ من عورت العين من باب تعب: نقصت وغارت. والسّواجر: جمع ساجر بكسر الجيم، وهو الموضع الذي يأتي عليه السّيل فيملؤه. يريد كثرة الدموع. وقوله: ألا إنّ زاد الرّكب الخ ، زاد الركب: لقب أبي أميّة، قال الزّبير بن بكّار في أنساب قريش: كان أزواد الرّكب من قريش ثلاثة: أحدهم: مسافر بن أبي عمرو بن أميّة بن عبد شمس. وثانيهم: زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى. وثالثهم: أبو أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وإنّما قيل لهم أزواد الرّكب لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزوّد معهم أحد. وسحيم بضمّ السين وفتح الحاء المهملتين: موضع؛ وسروه: أعلاه. كذا قال ابن السيد وغيره. وليس هذا اللفظ في معجم ما استعجم ولا في معجم البلدان . والموجود في الأول سخيم بالخاء المعجمة على وزنه، قال: هو مخلاف بن مخاليف اليمن تنسب إليه الخمور الجيدّة. وقال في مادة سرو: والسّرو ارتفاع وهبوط بين حزن وسهل، وسرو حمير أعلى بلاد حمير. انتهى. وزعم العينيّ أن سرواً هنا شجرة وليس كذلك. وقوله: بسرو سحيم عارف الخ ، عارف مبتدأ والظرف قبله خبره، وما بعده معطوف على عارف، وحذف حرف العطف من خطيب ضرورة. والعارف من عرف على القوم يعرف، من باب قتل، عرافة بالكسر، فهو عارف أي: مدبّر أمرهم وقائم بسياستهم. ومناكر: اسم فاعل من ناكرة، أي: قاتله. وخطيب القوم هو المتكلم عنهم. والياسر: اللاعب بقداح الميسر وهو قمار العرب، وتسمّى الأزلام. وكان الميسر منقبةٌ في الجاهليّة، يلعبون به في أيّام الجدب والقحط؛ وكان الغالب يفرق ما اخذه على الفقراء. والقافل: الرّاجع من السفر. والبشائر: جمع بشارة. وأراد بأهل الله قريشاً، وكانت العرب تسمّيهم أهل الله لكونهم أرباب مكّة. وبيض: جمع أبيض؛ والبياض لعزّته عند العرب لغلبة السمرة عليهم، يستعيرونه لحسن الحال والجودة. والحبير ، بفتح المهملة وكسر الموحدة: ثياب ناعمة كانت تصنع باليمن. وريدة ، بفتح الراء وسكون المثناة التحتية: بلدة من بلاد اليمن. ومعافر ، بفتح الميم وكسر الفاء وبينهما عين مهملة: حيّ من همدان في اليمن، إليهم تنسب الثياب المعافريّة. وقوله: مجعجعة ، اسم فاعل من جعجعت الإبل، إذا صوّتت؛ والجعجعة: أصواتها إذا اجتمعت؛ وهي حال من كوم جمع كوماء كصحراء، وهي الناقة العظيمة السنام. وقال ابن السيد وغيره من شرّاح الشواهد: المجعجعة المصروعة، وعليه فهي اسم مفعول. ومن العجائب قول العينيّ هنا: مجعجعة من الجعجعة وهي صوت الرحى. والباقر: اسم لجماعة البقر، كالجامل لجماعة الجمال. وقوله: إذا أكلت يوماً .. الخ الغد منصوب على الظرفيّة، وهو اليوم الذي يلي يومك. ومثله: حال من زواهق، وهي جمع زاهقة، وهي السّمينة. والزّهم: الكثيرات الشحم، جمع زهمة بفتح فكسر، وكلاهما بالزاي المعجمة. والمخاض: الحوامل من الإبل، واحدها خلفة من غير لفظها. والبهازر: جمع بهزرة كحيدرة، وهي العظيمة الجسم. وقوله: ضروبٌ بنصل السيف الخ ، السياق والسباق يمنع أن يكون تقديره أنت ضروب، كما زعمه بعضهم. والغريض ، بإعجام الطرفين: الطريّ من اللحم. وتكبّ: تصبّ. والغرائر: جمع غرارة، وهي العدل، يكون فيها الدقيق والحنطة وغسيرهما. وقوله: فيا لك من ناع الخ ، هذا تعجبّ. والنّاعي: الذي يخبر بموت الإنسان. وحبيت: خصصت، من الحباء وهو العطّية. والألّة ، بفتح الهمزة واللام المشددة، وهي الحربة. وشراعيّة بالكسر، لا بالضم كما ضبطه العينيّ. قال صاحب الصحاح: ورمح شراعيّ أي: طويل؛ وهو منسوب. وقال ابن السيد وتبعه ابن خلف: الشّراعيّة التي قد أشرعت للطّعن، أي: صوّبت وسدّدت. وقوله: تصفر منها الخ أي: تموت منها، لأنّ الميت يصفرّ ظفره، دعاءٌ على من أخبر بموت أبي أميّة بالقتل. وأبو أميّة اسمه كنيته، تقدم ذكر نسبه قريباً، مات في الجاهليّة، وكان زوج أخت أبي طالب، وهي عاتكة بنت عبد المطلّب بن هاشم عمّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال الزّبير بن بكّار في أنساب قريش: كان عند أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم أربع عواتك: عاتكة بنت عبد المطلب، وهي أمّ زهير وعبد الله وهو الذي قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، وقريبة الكبرى وعاتكة بنت جذل الطّعان، وهي أم أمّ سلمة والمهاجر. وعاتكة بنت عتبة بن ربيعة، وهي أم قريبة الصغرى. وعاتكة التميميّة، وهي بنت قيس بن سعد بن زمعة بن نهشل بن دارم، وهي أم أبي الحكم - درج - وأمّ مسعود قتل يوم بدر كافراً، وربيعة وهشامٍ الأكبر وصفيّة. وكان زهير بن أبي أميّة من رجال قريش، وكان عبد الله بن أبي أميّة شديد الخلاف على المسلمين، ثم خرج مهاجراً من مكّة يريد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلقيه بالطّلوب بين السّقيا والعرج، هو وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فأعرض عنهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت له أم سلمة: يا رسول الله ما جعل ابن عمّك وأخي، ابن عمّتك أشقى الناس بك! فقال عليّ بن أبي طالب لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول صلّى الله عليه وسلّم من قبل وجهه وقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تا لله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا لخاطئين فإنّه لا يرضي أن يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرّاحمين وقبل منهما وأسلما. وهو أخو أمّ سلمة لأبيها، وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتح مكّة وحنين. وقتل يوم الطائف شهيداً. وقتل هشام بن أبي أميّة يوم أحد كافراً. وأسلم المهاجر وزهير. وولد زهير معبداً، وقتل يوم الجمل، وعبد الله بن زهير. وولدت قريبة الكبرى لزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى. وولدت قريبة الصغرى عبد الله وأمّ حكيم ابني عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه. وترجمة أبي طالب عمّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تقدّمت في الشاهد الحادي والتسعين. وأنشد بعده: الطويل بمنجردٍ قيد الأوابد هيكل على أنّ قيداً بمعنى مقيّد، فإضافته إلى الأوابد لفظيّة لم تكسبه تعريفاً؛ ولهذا وقع نعتاً لمنجرد. وهذا عجز، وصدره: وقد أغتدي والطّير في وكناتها أي: أخرج غدوةً للصيّد، والوكنة: عشّ الطائر الذي يبيض فيه. والمنجرد من الخيل: الماضي في السير. والأوابد: جمع آبدة بالمدّ وهي الوحوش يريد أنّ هذا الفرس من سرعته يلحق الوحوش فيصير لها بمنزلة القيد. وهذا البيت من معلّقة امرئ القيس، تقدّم شرحه والكلام على قيد الأوابد بلاغة وإعراباً في الشاهد الخامس والثمانين بعد المائة. وأنشد بعده: يا سارق اللّيلة أهل الدّار على أنّ إضافة سارق إلى اللّيلة بمعنى في، أي: يا سارقا في اللّيلة. وقد تقدّم الكلام على هذا في الشاهد الثالث والتسعون بعد المائتين لحافي لحاف الضيّف والبرد برده على أنّ أل في البرد عند الكوفيّين عوض من المضاف إليه، والتقدير: ويردي برده. وهو المناسب لقوله: لحافي لحاف الضّيف. وقد أورده الشارح في البدل، وفي المعرّف بللام، وفي الصفة المشبهة أيضاً. وهذا صدره وعجزه: ولم يلهني عنه غزالٌ مقنّع وبعده: أحدّثه إنّ الحديث من القرى *** وتعلم نفسي أنّه سوف يهجع وهذان البيتان أوردهما أبو تّمام في باب الأضياف من الحماسة لمسكين الدّارميّ، إلاّ أنّه روى المصراع الشاهد: لحافي لحاف الضّيف والبيت بيته. وكذلك رواه جميع من سيذكر من رواته، منهم ابن الأثير في المثل السائر وقال: الغزال استعارة للمرأة الحسناء. ومنهم السيّد المرتضى في أماليه وقال: ومعنى أحدثه إن الحديث من القرى، أي: أصبر على حديثه وأعلم أنّه سوف ينام، ولا أضجر بمحادثته فأكون قد محقت قراي. والحديث الحسن من تمام القرى. وقال التبريزيّ: أي تعلم نفسي وقت هجوعه فلا أكلّمه. يريد أنّه يحدثه بعد الإطعام كأنّه يسامره، حتّى تطيب نفسه؛ فإذا رآه يميل إلى النوم خلاّه. فإن قيل: كيف يحمد بقوله: إنّ الحديث من القرى، وقد قال غيره في إنزال الضيف: الطويل ولم أقعد إليه أسائله قلت: هذا إشارة إلى ابتداء النزول، وذلك وقت الاشتغال بالضيافة، وهذا يريد بحديثه بعد الإطعام. ومنهم الأعلم الشنتمريّ في حماسته إلاّ أنّه روى المصراع الأخير: وتكلأ عيني عينه حين يهجع وتكل: تحرس؛ والكلاءة: الحراسة والحفظ. والعين الأوّل حاسّة البصر، والثاني بمعنى الذات. ومنهم أبو زيد في نوادره ، ومنهم الجاحظ في البيان والتبيين إلاّ أنهما زادا على البيتين قبلهما بيتين آخرين وهما: أرى كلّ ريحٍ تسكن مرّةً *** وكلّ سماءٍ ذات درّ ستقلع فإنك والأضياف في بردةٍ مع *** إذا ما تبض الشّمس ساعة تنزع لحافي لحاف الضّيف.... ***.............البيتين قال أبو زيد: تبضّ، أي: تجري إلى المغرب، أي: أمرهم لازم لك، كأنّك أنت وهم في بردة. وهو بالضاد المعجمة، قال صاحب الصحاح: وبضّ الماء بيضّ بضيضاً، أي: سال قليلاً قليلاً. وتنزع: تذهب؛ من نزع إلى كا: إذا مال إليه وذهب. وأراد بالسماء السحاب. والدّرّ القطر. والإقلاع: الكفّ عن الشيء، يقال: أقلع عمّا كان عليه. والكاف من قوله فإنّك الخ مكسورة؛ لأنّه خطاب مع امرأته. وقوله: ولم يلهني أي: لم يشغلني. والمقنّع: اسم مفعول، الذي ألبس المقنع والمقنعة بالكسر، وهما ما تقنّع به المرأة رأسها، أي: تغطّية. والقناع أوسع من المقنعة. وإنّما لم يقل المقنّعة بالتأنيث لأنّه جرى على لفظ الغزال. وكلّهم روى هذا الشعر لمسكين الدّارميّ - وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد السابع والستين بعد المائة - إلاّ الجاحظ والأعلم الشنتمريّ، فإنهما نسباه إلى كعب ابن سعد الغنويّ. ونسبه التبريزيّ إلى عتبة بن بجير، وبعض شرّاح الحماسة. وقد انفرد ابن الشّجريّ بنسبته إلى عتبة بن مسكين الدّارميّ، فإنّه قال: محادثة الضيف من دلائل الكرم؛ وقد مدحوا بذلك وتمدحوا به: فمن المدح قول الشمّاخ يمدح عبد الله بن جعفر: الرجز إنّك يا ابن جعفر نعم الفتى *** ونعم مأوى طارق إذا أتى وربّ ضيفٍ طرق الحيّ سرى *** صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى إنّ الحديث طرفٌ من القرى ومن التمدّح قول عتبة بن مسكين الدّارميّ: لحافي لحاف الضيّف والبيت بيته ***........... البيتين وقوله: وربّ ضيف ، هو بفتح الراء وضمّ الباء عطف على نعم. وقد نسب ابن الشّجريّ الدارميّ إلى البخل، فإنّه قال قبل دينك البيتين. ومن شعره الذي استدلّ به على بخله قوله يذكر ضيفاً نزل به: الطويل أتى يخبط الظّلماء واللّيل دامسٌ *** يسائل عن غير الذي هو آمل فقلت لها قومي إليه فيسّري *** طعاماً فإنّ الضّيف لا بدّ نازل يقول وقد ألقى مراسيه للقرى *** أبن لي ما الحجّاج بالنّاس فاعل فقلت لعمري ما لهذا طرقتن *** فكل ودع الحجّاج ما أنت آكل أتانا ولم يعدله سبحان وائلٍ *** بياناً وعلماً بالذي هو قائل فما زال عنه اللّقم حتّى كأنّه *** من العي لمّا أن تكلم باقل قوله: ألقى مراسيه ، أي: ألقى أثقاله وثبت كلّ الثبات. وسؤاله عن الحجّاج هو الذي عناه بقوله: يسائل عن غير الذي هو آمل . وطرقتن: أتيتنا ليلاً. وقوله: فما زال عنه اللّقم الخ ، أراد أنّه امتلأ من الطعام حتّى كسبته الكظّة العيّ، كقولهم: البطنة تذهب الفطنة . ولّما بدأه الضيف بالحديث وسأله عن الحجّاج طلباً للاستئناس، قطع عليه كلامه بقوله: ما لهذا طرقتنا، فكل ودع الحجاج. وهذا منه نهايةٌ في البخل، لأنّ محادثة الضّيف من دلائل الكرم. انتهى كلام ابن الشّجريّ. وأنشد بعده: وهو
|